تمثل القيم الكبرى الحاكمة من حكمة راشدة، ووحدة صلبة، وعمل مشترك مخلص طوق النجاة الحقيقي للأمم والمجتمعات، فهي مبادئ نظرية ترجمت أدوات عملية لصناعة المستقبل، وحماية القضايا العادلة، وصون الكرامة الإنسانية، ويثبت التاريخ الإنساني أن الشعوب التي تتمسك بهذه القيم وتحولها إلى سلوك يومي هي الأقدر على مواجهة التحديات، وصناعة الإنجازات الكبرى، وحفظ حقوقها في عالم سريع التغير، لأنها تجعل من القيم قوة موجّهة ومن الإنجاز طريقًا للخلود الحضاري.
وتعد الحكمة هي جوهر القيادة الرشيدة والقدرة العميقة على قراءة الواقع وتحليله، واستخلاص القرار الصائب في اللحظة المناسبة، فالحكيم من يملك المعرفة ويحسن توظيفها لصالح الناس، ويوازن بمهارة بين المبادئ والمصالح، وفي القضايا العادلة تمثل الحكمة بوصلة الاتجاه الصحيح؛ فهي التي تحول الصراعات إلى حوارات، والمخاطر والأزمات إلى منطلقات للنهوض والبناء، فالحكمة بابًا للخير الواسع لأنها تصون الحق وتمنع الظلم، وترشد إلى السبل التي تحفظ كرامة الإنسان وتحقق المصلحة العامة، وتتمتع مصر، قيادةً وشعبًا، بتاريخٍ طويل من الحكمة والبصيرة والرؤية الاستباقية التي مكنتها من استشراف المخاطر وبناء المواقف المتوازنة.
وتمثل الوحدةَ قوة معنوية ومادية تتجاوز قدرات الأفراد والجماعات منفردين؛ والتاريخ شاهد على أن اللحظاتِ التي توحدت فيها الإرادات وتلاقت فيها الطاقات كانت لحظات إنجاز وكرامة وصعود حضاري، والوحدة هي تنسيق حكيم للجهود وتكامل للطاقات نحو أهدافٍ مشتركة، مع احترام الخصوصيات وتعظيم المشترك، ومن هذا الإدراك العميق، جعلت مصر من الدعوة إلى الوحدة العربية والإسلامية حجر زاوية في سياستها الخارجية، وجسرًا لبناء الثقة بين الشعوب والدول، إذ تنطلق دعوتها من تاريخ طويل من الحكمة والبصيرة والرؤية الاستباقية التي ميزت قيادتها، وهكذا تتحول الوحدة، حين تقترن بالحكمة المصرية المتراكمة، إلى قوة مضاعفة قادرة على حماية القضايا العادلة وصون الكرامة الإنسانية وبناء مستقبل آمن ومزدهر للأمة في عالم يموج بالتحديات والتحولات.
ويعد العمل المشترك الامتحان الحقيقي للوحدة والحكمة؛ فالقيم الكبرى تتجلى في الواقع حين تترجم إلى مشاريع وبرامج ومواقف عملية ملموسة، والتجارب الإنسانية تثبت أن التعاون سواء بين الدول أو المؤسّسات أو الأفراد يعزِز القدرة على مواجهة التحديات العابرة للحدود، مثل الأزمات الاقتصادية والتغيرات المناخية والنزاعات المسلحة، ويضاعف فرص النهوض والتنمية المستدامة، ومن هذا المنطلق جعلت مصر من العمل المشترك أولويةً استراتيجية في سياساتها، فبادرت إلى إطلاق ودعم المبادرات الإقليمية والدولية في مجالات التنمية والسلام ومكافحة الإرهاب وحماية البيئة، وسعت إلى حشد الجهود الجماعية في المحافل الدولية دفاعًا عن القضايا العادلة وتعزيزًا للكرامة الإنسانية، وهكذا يتحوّل العمل المشترك، حين يقترن بالحكمة والوحدة، إلى طاقةٍ فاعلةٍ تسهم في بناء السلام العادل وصيانة الأمن والارتقاء بالمصير الإنساني المشترك.
وتحتاج القضايا العادلة سواء تعلقت بالتحرر الوطني أو بالحقوق الإنسانية أو بالعدالة المناخية إلى كلاً من الحكمة والوحدة والعمل المشترك، فالحكمة تضع الرؤية والخطة، والوحدة توحد الصفوف والطاقات، والعمل المشترك يترجم هذه الخطط إلى إنجازات ملموسة على الأرض، والشعوب التي تهمل هذه القيم تصبح أكثر عرضة للتجزئة والتهميش، فتتبدد حقوقها بين مصالح القوى الكبرى، أما الشعوب التي تتمسك بها فتستطيع أن تدافع عن نفسها، وتفرض وجودها، وتصون كرامتها، وتتحقق الكرامة الإنسانية حين تشعر الشعوب بقدرتها على تقرير مصيرها وحماية حقوقها، إذ تمنحها الحكمة بصيرة تتيح تجنب الحروب والدمار، وتزودها الوحدة بقوةٍ تمكنها من رفض الإملاءات الخارجية، فيما يجعلها العمل المشترك قادرة على تحويل الطموحات إلى إنجازات حقيقية في التنمية والعدالة الاجتماعية، وهكذا تتكامل هذه القيم الثلاث لتجعل الإنسان غاية التنمية ووسيلتها، ولتبني مستقبلًا أكثر.
وتتجلي في السياق المصري المعاصر تتجلى هذه القيم الكبرى في صور عملية وواقعية، فمصر بحكم تاريخها وموقعها ودورها المحوري جسدت في مواقف عديدة قيمة الحكمة في معالجة القضايا الإقليمية والدولية، فكانت صوتًا عاقلًا ودائمًا يدعو إلى السلام العادل وصون الكرامة الإنسانية في فلسطين والسودان وليبيا واليمن وغيرها من بؤر التوتر، كما عززت الوحدة العربية والإفريقية من خلال القمم والمؤتمرات والمبادرات المشتركة، وطرحت تصورات عملية لبناء جسور التعاون في مجالات التنمية والطاقة والمناخ، وإطلاقها منتدى شباب العالم ليكون فضاءً مفتوحًا للحوار الدولي بين الثقافات والشعوب، فضلًا عن مبادراتها التي تجمع بين الانفتاح على العالم وصون الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء، في تجسيد حي لقدرتها على التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وبين مصالح الداخل ومتطلبات الخارج.
وتحتاج القيم الكبرى إلى بيئة ثقافية وتربوية حاضنة تغرسها في الأجيال منذ نعومة أظفار، فالحكمة تبدأ من التربية على التفكير النقدي والتمييز بين الحق والباطل، وتنمو من تعليم الأطفال فن الإصغاء والحوار واتخاذ القرار الرشيد، والوحدة تبدأ من احترام الآخر داخل الأسرة والمدرسة والمجتمع، وتغذية روح الانتماء والمسؤولية المشتركة، والعمل المشترك يتأسس على تدريب الناشئة على التعاون وحب المشاركة والعمل بروح الفريق منذ الصغر، وعندما تتكامل هذه المنظومة في البيت والمدرسة والإعلام والمؤسسات الثقافية، تتكوّن أجيال أكثر وعيًا وقدرة على حماية القضايا العادلة، وصون الكرامة الإنسانية، وتوجيه طاقاتها لبناء وطن قوي ومجتمع متماسك يسهم في صناعة مستقبل أكثر عدلًا وإنسانية.
ونخلص إلى أن الحكمة والوحدة والعمل المشترك منظومة متكاملة تترجم في سياسات الدول كما في سلوك الأفراد والمؤسسات، وتتحول إلى ممارسات فعلية على أرض الواقع، ومن ثم تصبح الأمة كيانًا أكثر قوة واحترامًا وقدرة على رسم مستقبلها بيدها، بعيدًا عن الإملاءات الخارجية والتجزئة الداخلية، وهنا تتجلي مسؤوليتنا جميعًا قيادات ومؤسسات ومواطنين، في أن نجعل الحكمة منهجًا لقراراتنا، والوحدة روحًا تسري في صفوفنا، والعمل المشترك سلوكًا يوميًا في مدارسنا وأعمالنا ومبادراتنا المجتمعية، وبهذه الروح نستطيع أن نحمي القضايا العادلة، ونصون الكرامة الإنسانية، ونترك للأجيال القادمة وطنًا أكثر قوة وإنصافًا وأمانًا؛ وطنًا أيقونة للصمود أمام التحديات، يبني ويبدع ويقود، فالحكمة تضيء الطريق، والوحدة تمنح القوة، والعمل المشترك يصنع الإنجاز؛ وبهذا الثالوث تنهض الأمم وتكتب فصولًا جديدة من المجد والازدهار.
بقلم
أ.د/ مها محمد عبد القادر
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر